الأحد، ٨ مارس ٢٠٠٩

خبــــز بـطعـم القــمـــع!

أثناء رحلاتى المكوكية اليومية للقاهرة لفتت انتباهى لافتة، فما حوته
هو مما تسال من أجله الدماء وتزهق فى سبيله الأرواح ونبتهل لله
بالدعاء أن لا يحرمنا منه..

(وزارة الداخلية - قطاع الأمن المركزى - منفذ بيع خبز للجمهور)
ربما تعرف أو لا تعرف أن معسكرات الأمن المركزى بها أفران خبز لخدمتهاوهى أيضاً
تبيع بعضه للجمهور..
لفت نظرى أثناء عودتى ذات مرة من القاهرة تلك اللافتة والأهم من ذلك كان قلة عدد الواقفين على نافذة البيع الذى كان لا يذكر قريبا.. حمدت ربى فى نفسى وقلت هاهو باب من السماء قد فتح ولنستريح قليلا من عناء الإغارة اليومية على أكشاك الخبز الحكومية..صباح اليوم التالى أعددت العدة وأخذت معى حقيبة بلاستيكية جيدة الصنع بـ25 قرش ، وعند العودة نزلت فى محطتى وتمشيت قليلا فى الاتجاه العكسى حيث يقع المنفذ قبل المحطة بقليل -وهذا أحد أسباب قلة المشترين منه- حتى وصلت إلى نافذة الأمل تلك ، ولم أجد من الوقوف سوى رجلين وامرأة ..
- ألا يوجد خبز؟
- عشر دقائق ، أجابنى الصبى .. انتظمت فى مكانى وانتظرنا مجىء الخبز.
أتى رجل يرتدى حلة عسكرية ووقف بعدى وأتى آخر وقف بجانب الشباك فقال رجل الجيش "فى طابور، لو سمحت" ، أبرز الرجل يده بعملة من فئة الـ25 قرش قائلا "ده أنا عايز بربع جنيه"...."لو كده ماشى".
تجاذبنا أطراف الحديث لتمضية الوقت وعلمت منه أنه يشترى يوميا من هنا بحكم أنه يحصل على (فرقة) بالقرب من المنفذ فسألته "بيدى بكام" قال:"بجنيه بس احنا بناخد بالجنيه ونرجع تانى نقف فى الطابور وناخد بجنيه كمان".
أخيراً أتى الخبز، التزم الجميع الصمت كل ينتظر دوره فإذا برجل الجيش يمد يده من فوق كتفى إلى الصبى الصغير بسيجارة.. تمنع الصبى قليلاً وكأن الأمر لا يعنيه أو كأنه لم يرها، ثم تناولها ، أتى دورى ممددت يدى بجنيهين لعل وعسى، لكنه رَد لى أحدهما بأدب دون أن يتكلم أو أعلق، أخذت خبزى لأجففه على بعض الأحجار وفى نيتى أن أعود مرة أخرى للطابور الذى بدأ يتكون شيئاً فشيئاً، أثناء وقوفى كان رجل الجيش قد أخذ خبزه وأتى بجانبى ليجفف خبزه هو الآخر، فإذا ما بيده كمية لا تقل قيمتها عن جنيهين فنظرت له وابتسمت، فضحك قائلاً: "شفت أهى نفعت!"..ذهب هو إلى حال سبيله وعدت أنا مرة أخرى إلى الطابور لآخذ بجنيه آخر وقد كان..
فى المنزل، تفحصت هذا الخبز (المسلح) فإذا به والحق أقول خبز ممتاز فلا كتل دقيق نىء ولا أعقاب سجائر ولا قطع خشب ولا طبقة كبيرة محترقة بشكل (الهباب الأسود) الذى اعتدنا عليه، وإن كنت أشك أنه 130 جرام كما هو مفترض.. ولكن الحمد لله أن نلنا بعضه .. تذكرت عادل إمام حينما أمسك برغيف قطره 40سم وقال: "رغيف عيش بشلن..بخمسة قروش..ده بسكويت يا جماعة مش عيش!"
وجدتهم قد أتوا بخبز من الكشك الحكومى الذى بجوارنا فتفحصته بدوره فإذا به كل العبر والعلل التى يمكن أن تجدها فى رغيف وهو أصلا لا يصلح لأى آدمى يحترم نفسه بالإضافة إلى حجمه الغريب حيث لا يزيد قطره عن 12سم حجم القرص المدمج تقريبا، ومن المضحك أنهم يتفننوا فى أشكاله..فتجد المثلث وشبه المنحرف وأشكال من الفن التشكيلى التى لا تفهم كنهها أو ما تعبر عنه بالضبط.
اقترحت أمى أن نأكل من هذا الخبز التشكيلى ونخزن الخبز الذى أتيت أنا به فى المُجمِد لأنه هو الذى يصلح للتخزين..

الخبز الذى اصطلح المصريون على تسميته (عيش) مِن عاش يعيش معيشة أى أن الحياة لا تستوى بدونه. الخامة واحدة والثمن واحد وصناعته ليست بالمعقدة ولا هى من الفن بمكان ومع ذلك يختلف من مكان لآخر فى البلدة الواحدة..إن الأمر كله ليس سوى الضمير الذى يغط فى نوم عميق ولا يستيقظ إلا بمفتش تموين أو ضابط شرطة أو أى مسئول ذى سلطة..

وأخيراً، تحية واجبة لرجال الأمن المركزى على إخلاصهم فى صنع الخبز، وقمعهم للجماهير!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق